فصل: الْبَابُ الثَّانِي وَالْخَمْسُونَ فِي الْأُمَرَاءِ وَالْوُلَاةِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِمْ مِنْ أُمُورِ الْعِبَادِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: معالم القربة في طلب الحسبة



.فَصْلٌ فِي الشُّهُودِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِمْ:

الْعَدَالَةُ فِي اللُّغَةِ: مَأْخُوذَةٌ مِنْ الِاسْتِقَامَةِ وَالْعَدْلُ مَأْخُوذٌ مِنْ الِاعْتِدَالِ وَسُمِّيَ الْعَدْلُ عَدْلًا لِاسْتِوَاءِ أَفْعَالِهِ حَتَّى لَا يَكُونَ فِيهَا مَيْلٌ عَنْ الصَّوَابِ، وَقَدْ نَطَقَ الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ بِفَضْلِهَا فِي مَوَاضِعَ وَجَاءَتْ الْأَخْبَارُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَنْ الصَّحَابَةِ، وَقَدْ جَعَلَهَا اللَّهُ أَعْلَى مَنَازِلِ الرِّيَاسَةِ وَرَفَعَهَا وَنَسَبَهَا إلَى نَفْسِهِ وَشَرَّفَ بِهَا مَلَائِكَتَهُ وَأَجَلَّ خَلْقِهِ فَقَالَ تَعَالَى: {لَكِنْ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاَللَّهِ شَهِيدًا}، وَقَالَ تَعَالَى: {وَاَللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ}.
وَقَالَ تَعَالَى: {فَكَيْفَ إذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا} فَجَعَلَ كُلَّ نَبِيٍّ شَهِيدًا عَلَى أُمَّتِهِ لِكَوْنِهِ أَفْضَلَ خَلْقِهِ فِي عَصْرِهِ فَجَعَلَ ذَلِكَ أَفْضَلَ مَنْزِلَةً وَأَعْلَى رُتْبَةً وَكَفَى بِالشَّهَادَةِ شَرَفًا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَفَضَ الْفَاسِقَ عَنْ قَبُولِ شَهَادَتِهِ وَرَفَعَ الْعَدْلَ بِقَبُولِهَا.
وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} فَأَخْبَرَ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أَنَّ الْعَدْلَ هُوَ الْمَرْضِيُّ فَقَالَ: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنْ الشُّهَدَاءِ}.
وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتْ الْأَرْضُ} يَعْنِي هُوَ مَا يَدْفَعُ اللَّهُ عَنْ النَّاسِ بِالشُّهُودِ فِي حِفْظِ الْأَمْوَالِ وَالدِّمَاءِ وَالْأَعْرَاضِ فَهُمْ حُجَّةُ الْأَنَامِ وَبِقَوْلِهِمْ تَنْفُذُ الْأَحْكَامُ، وَفِي الْحَدِيثِ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَكْرِمُوا الشُّهُودَ فَإِنَّ اللَّهَ يَسْتَخْرِجُ بِهِمْ الْحُقُوقَ وَيَدْفَعُ بِهِمْ الظُّلْمَ».
وَسَمَّاهُمْ الْبَيِّنَةَ لِوُقُوعِ صِحَّةِ الْبَيَانِ بِقَوْلِهِمْ وَارْتِفَاعِ الْإِشْكَالِ بِشَهَادَتِهِمْ وَذَلِكَ غَايَةُ التَّزْكِيَةِ، وَإِنَّهَا أَصْلٌ فِي كُلِّ فَضِيلَةٍ فَالْإِمَامُ لَا تَثْبُتُ وِلَايَتُهُ، وَلَا تَلْزَمُ طَاعَتُهُ مَا لَمْ يَكُنْ عَدْلًا وَالْقَاضِي لَا تَنْفُذُ أَحْكَامُهُ مَا لَمْ يَكُنْ عَدْلًا وَالْمُفْتِي لَا تَلْزَمُ فَتَاوِيه مَا لَمْ يَكُنْ عَدْلًا، فَالْخَلِيفَةُ وَالسُّلْطَانُ وَالْقَاضِي عَامِلٌ بِقَوْلِهِمْ وَمُعَوِّلٌ عَلَى خَبَرِهِمْ وَبِقَوْلِ اثْنَيْنِ مِنْهُمْ تُقْتَلُ النُّفُوسُ وَتَحِلُّ الْفُرُوجُ وَيُزَالُ الضَّلَالُ وَتَنْتَقِلُ الْأَمْوَالُ وَتُوجَبُ الْحُدُودُ، وَلَا يَسَعُهُمْ مُخَالَفَتُهُمْ فَيَجِبُ عَلَى الْعَاقِلِ الْمُتَصَدِّي لِهَذِهِ الرُّتْبَةِ أَنْ يَعْمَلَ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ مَعْرِفَةِ أَحْكَامِ الشَّهَادَةِ وَتَحَمُّلِهَا وَآدَابِهَا وَهِيَ أَفْضَلُ حَالَاتِ الْحُرِّ الْمُسْلِمِ، وَأَنْ يَسْتَعِينَ بِاَللَّهِ عَلَى أَدَاءِ حَقِّهَا وَالْقِيَامِ بِهَا وَيَسْتَعِيذُ مِمَّنْ يَبْتَغِيهَا وَلَيْسَ هُوَ مِنْ أَهْلِهَا طَلَبًا لِلرِّيَاسَةِ لَهَا بَعْدَ ذِلَّةٍ وَالْإِكْثَارِ بَعْدَ قِلَّةٍ فَلَا يُنَازَعُ إذَا قَالَ، وَلَا يُعَارَضُ بِحَالٍ، أَوْ طَلَبًا لِلتَّشَفِّي مِمَّنْ عَادَاهُ وَالرِّفْعَةِ عَلَى مَنْ سَاوَاهُ وَالتَّكَبُّرِ وَالْمُبَاهَاةِ فَمَنْ كَانَ بِهَذِهِ الْمَنْزِلَةِ، فَقَدْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنْ اللَّهِ وَلَزِمَهُ مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ تَصَنَّعَ الْعَدَالَةَ لِيَشْهَدَ بَيْنَ يَدَيْ الْحُكَّامِ أَلْجَمَهُ اللَّهُ لِجَامًا مِنْ نَارٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَحَرَّمَ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ» فَالْوَيْلُ لِمَنْ دَخَلَ تَحْتَ هَذَا الْوَعِيدِ وَلَعَمْرِي لَقَدْ تَحَمَّلَ أَمْرًا شَدِيدًا؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا شَهِدَ فِيمَا لَا يَنْبَغِي بِجَهْلٍ فَهَلَكَ وَأَهْلَكَ، وَإِنْ شَهِدَ بِالزُّورِ فَالْوَيْلُ لَهُ مِنْ الثُّبُورِ.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كُنْتُ عِنْدَ مُحَارِبِ بْنِ دِثَارٍ فَشَهِدَ عِنْدَهُ رَجُلَانِ عَلَى رَجُلٍ فَقَالَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ وَاَلَّذِي قَامَتْ بِأَمْرِهِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ لَقَدْ كَذَبَا عَلَيَّ وَمَا فَعَلَا ذَلِكَ إلَّا غَيْظًا فَاسْتَوَى مُحَارِبُ بْنُ دِثَارٍ جَالِسًا وَكَانَ مُتَّكِئًا.
وَقَالَ سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إنَّ الطَّيْرَ تَخْفِقُ بِأَجْنِحَتِهَا وَتَرْمِي مَا فِي حَوَاصِلِهَا لَا تَفْزَعُ إلَّا لِهَوْلِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَإِنَّ شَاهِدَ الزُّورِ لَا تَنْفَكُّ قَدَمَاهُ حَتَّى يَتَبَوَّأَ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ»، فَإِنْ كُنْتُمَا صَدَقْتُمَا فَأَثْبِتَا، وَإِنْ كَذَبْتُمَا فَغَطِّيَا رُءُوسَكُمَا وَاخْرُجَا، قَالَ: فَقَامَا وَغَطَّيَا رُءُوسَهُمَا وَخَرَجَا.
وَالْعَدْلُ فِي الشَّرِيعَةِ هُوَ أَنْ يَجْتَمِعَ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْصَافٍ:
الِاسْتِقَامَةُ فِي الدِّينِ وَالِاسْتِقَامَةُ فِي الْأَحْكَامِ وَالِاسْتِقَامَةُ فِي الْمُرُوَّةِ، وَجَمِيعُ ذَلِكَ يَشْتَمِلُ عَلَى سَبْعَةِ أَقْسَامٍ بِوُجُودِهَا تُطْلَقُ عَلَيْهِ الْعَدَالَةُ وَيَسْتَحِقُّ قَبُولَ الشَّهَادَةِ:
أَحَدُهَا الْحُرِّيَّةُ وَالثَّانِي الْعَقْلُ وَالثَّالِثُ الْإِسْلَامُ وَالرَّابِعُ الْبُلُوغُ وَالْخَامِسُ الصَّلَاحُ فِي الدِّينِ وَالسَّادِسُ الْمُرُوَّةُ وَالسَّابِعُ التَّيَقُّظُ فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ مُغَفَّلٍ، وَلَا مَنْ يُعْرَفُ بِكَثْرَةِ الْغَلَطِ وَالسَّهْوِ فَرُبَّ عَدْلٍ مُغَفَّلٍ كَثِيرِ الْغَلَطِ وَالسَّهْوِ لَا يَنْظُرُ لِحَقَائِق الْأَشْيَاءِ وَيَكْثُرُ سَبْقُهُ إلَى الِاعْتِقَادِ بِالتَّوَهُّمِ فَمِثْلُ هَذَا لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ إلَّا فِي أَمْرٍ جَلِيٍّ يَسْتَقْصِي الْقَاضِي فِيهِ وَيُكْثِرُ فِيهِ مُرَاجَعَتَهُ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُ صِحَّتُهُ وَسَقَمُهُ.
وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ صَبِيٍّ وَقَبِلَ مَالِكٌ شَهَادَةَ الصِّبْيَانِ فِي الْقَتْلِ وَالْجِرَاحِ إذَا كَانُوا ذُكُورًا يَعْقِلُونَ الشَّهَادَةَ وَمَحْكُومًا بِإِسْلَامِهِمْ، وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ رَقِيقٍ، وَلَا مَنْ فِيهِ جُزْءٌ مِنْ الرِّقِّ وَقَبِلَهَا أَحْمَدُ، وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ كَافِرٍ وَقَبِلَ أَبُو حَنِيفَةَ شَهَادَةَ الْكُفَّارِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْمَجْنُونِ، وَلَا الْفَاسِقِ، وَإِنْ كَانَ صَادِقًا فِي قَوْلِهِ وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى قَبُولِ شَهَادَتِهِ إذَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّ الْحَاكِمِ صِدْقُهُ وَقِيلَ: إنَّ الضَّابِطَ فِي قَبُولِ الشَّهَادَةِ أَلَا يَرْتَكِبَ كَبِيرَةً، وَلَا يُوَاظِبَ عَلَى صَغِيرَةٍ، وَاخْتَلَفُوا فِي حَدِّ الْكَبِيرَةِ وَالصَّغِيرَةِ فَقَالَ قَوْمٌ الْكَبِيرَةُ كُلُّ مَا وَرَدَ فِيهِ حَدٌّ أَوْ وَعِيدٌ بِنَصِّ كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ وَأَمَّا مَنْ ارْتَكَبَ شَيْئًا مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ كَالْقَتْلِ وَالزِّنَاءِ وَالسَّرِقَةِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ وَتَرْكِ شَيْءٍ مِنْ الْفَرَائِضِ كَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصَّوْمِ الْوَاجِبِ عَمْدًا مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ فَيُحْكَمُ بِفِسْقِهِ وَتُرَدُّ شَهَادَتُهُ، قَالَ صَاحِبُ الْإِبَانَةِ إنْ تَرَكَ صَلَاةً وَاحِدَةً لَا لِأَمْرٍ فَيُحْكَمُ بِفِسْقِهِ وَتُرَدُّ شَهَادَتُهُ، وَلَوْ تَرَكَهَا لِأَمْرٍ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا فَفِيهِ خِلَافٌ.

.حُكْمُ شَهَادَةِ مَنْ يَسْمَعُ آلَاتِ اللَّهْوِ والْحُدَاةِ:

وَأَمَّا سَمَاعُ الْعُودِ وَالْجُنْكِ وَالطُّنْبُورِ وَالْمِزْمَارِ وَمَا يُضْرَبُ بِطَرَبٍ، فَقَدْ ارْتَكَبَ أَمْرًا مُحَرَّمًا.
وَأَمَّا سَمَاعُ الدُّفِّ، وَإِنْ خَلَا عَنْ الْحِلِّ فَمُبَاحٌ وَالطُّبُولُ كُلُّهَا فِي مَعْنَى الدُّفِّ إلَّا الْكُوبَةَ وَهِيَ طَبْلٌ طَوِيلٌ ضَيِّقُ الْوَسَطِ وَاسِعُ الطَّرَفَيْنِ وَيُعْرَفُ بِطَبْلِ السُّودَانِ، وَأَمَّا سَمَاعُ الشَّبَّابَةِ فَهِيَ مَكْرُوهَةٌ وَأَمَّا سَمَاعُ الْغِنَاءِ فَمُخْتَلَفٌ فِيهِ أَمَّا أَهْلُ الْحِجَازِ فَأَبَاحُوهُ وَنُقِلَ عَنْ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ كَرَاهِيَتُهُ، وَلَمْ يُبِيحُوهُ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَلَمْ يُحَرِّمُوهُ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَتَوَسَّطُوا فِيهِ الْكَرَاهَةُ.
وَاسْتَدَلَّ مَنْ أَبَاحَهُ بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّهُ مَرَّ عَلَى جَارِيَةٍ لِحَسَّانِ بْنِ ثَابِتٍ وَهِيَ تُغْنِي:
هَلْ عَلَيَّ وَيْحَكُمَا ** إنْ لَهَوْتُ مِنْ حَرَجٍ

فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «لَا حَرَجَ إنْ شَاءَ اللَّهُ».
وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ الْغِنَاءُ زَادُ الْمُشْتَاقِ، وَكَانَ إذَا خَلَا فِي دَارِهِ يَتَرَنَّمُ.
وَكَانَ لِعُثْمَانَ جَارِيَتَانِ تُغَنِّيَانِ فِي اللَّيْلِ فَإِذَا جَاءَ وَقْتُ الِاسْتِغْفَارِ قَالَ لَهُمَا اُسْكُتَا، وَهَذَا جَمِيعُهُ بِشَرْطٍ أَلَّا يَقَعَ الْإِكْثَارُ مِنْهُ وَالِانْقِطَاعُ إلَيْهِ وَاسْتَدَلَّ مَنْ حَرَّمَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} قِيلَ هُوَ الْغِنَاءُ وَقِيلَ هُوَ شِرَاءُ الْمُغَنِّيَاتِ.
وَأَمَّا الْمُسْتَمِعُ لِذَلِكَ فَإِذَا صَارَ ذَلِكَ دَأْبَهُ وَاشْتُهِرَ بِهِ وَسَمِعَهُ فِي الْأَسْوَاقِ وَالطُّرُقَاتِ فَهُوَ مَرْدُودُ الشَّهَادَةِ وَأَمَّا إذَا سَمِعَهُ فِي خَلْوَةٍ اسْتِرْوَاحًا بِذَلِكَ فَهُوَ عَلَى عَدَالَتِهِ وَتُقْبَلُ شَهَادَتُهُ وَأَمَّا مَنْ اشْتَرَى جَوَارِيَ يُغْنِينَ لَهُ فَلَا بَأْسَ بِهِ إذَا لَمْ يُكْثِرْ مِنْ ذَلِكَ، وَلَمْ يَتَجَاهَرْ بِهِ وَأَمَّا إذَا اتَّخَذَهُنَّ لِلِاكْتِسَابِ وَيَدْعُوهُنَّ النَّاسُ إلَى دُورِهِمْ فَهَذَا مَرْدُودُ الشَّهَادَةِ وَهَذَا مِنْ الصَّغَائِرِ دُونَ الْكَبَائِرِ.
وَأَمَّا سَمَاعُ الْحُدَاةِ وَنَشِيدِ الْعَرَبِ فَلَا بَأْسَ بِهِ وَأَمَّا قَوْلُ الشِّعْرِ وَإِنْشَادُهُ، فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى الشِّعْرُ كَلَامٌ حَسَنُهُ حَسَنٌ وَقَبِيحُهُ قَبِيحٌ وَالْمَحْذُورُ مِنْهُ مَا كَانَ كَذِبًا أَوْ يَضْمَنُ فُحْشًا أَوْ قَذْفًا وَأَمَّا مُنْشِدُهُ، فَإِنْ أَنْشَدَهُ إنْكَارًا عَلَى قَائِلِهِ فَلَا بَأْسَ بِهِ، وَإِنْ أَنْشَدَهُ اسْتِحْسَانًا لَهُ وَطَلَبًا لِلْحِفْظِ كَانَ جُرْحًا فِي حَقِّهِ وَمَعَ هَذَا فَكُلُّ مَا لَا يَحْرُمُ قَوْلُهُ لَا يَحْرُمُ سَمَاعُهُ، وَالسَّمَاعُ وَالرَّقْصُ لَيْسَ بِحَرَامٍ فِي نَفْسِهِ، وَإِنَّمَا الْمُدَاوَمَةُ عَلَيْهِ خَارِقَةٌ لِلْمُرُوءَةِ.

.حُكْمُ شَهَادَةِ مَنْ لَبِسَ الْحَرِيرَ وَالذَّهَبَ ولَعِبَ بِالنَّرْدِ والشَّطَرَنْجِ:

وَلُبْسُ الْحَرِيرِ وَالْجُلُوسُ عَلَيْهِ وَلُبْسُ الذَّهَبِ وَاسْتِعْمَالُهُ حَرَامٌ وَلَكِنَّهُ مِنْ الصَّغَائِرِ وَبَالَغَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ حَتَّى قَالَ لَوْ كَانَ شُهُودُ النِّكَاحِ حَالَةَ الْعَقْدِ جُلُوسًا عَلَى الْحَرِيرِ لَمْ يَنْعَقِدْ النِّكَاحُ.
وَأَمَّا اللَّعِبُ بِالنَّرْدِ فَمِنْ الْكَبَائِرِ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَهُوَ حَرَامٌ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ لَعِبَ بِالنَّرْدِ فَكَأَنَّمَا غَمَسَ يَدَهُ فِي دَمِ خِنْزِيرٍ» وَحَرَّمَ مَالِكٌ اللَّعِبَ بِهِ وَفَسَّقَ اللَّاعِبَ بِهِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ أَكْرَهُ اللَّعِبَ بِالنَّرْدِ وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ صَرِيحُ التَّحْرِيمِ وَلَكِنْ نَقُولُ لَا يُمْكِنُ الِاسْتِدْلَال بِقَوْلِ الشَّافِعِيِّ إنَّهُ يَكْرَهُ، فَإِنَّ كَثِيرًا مَا يُطْلِقُ الشَّافِعِيُّ الْكَرَاهَةَ وَيُرِيدُ بِهَا التَّحْرِيمَ.
وَأَمَّا اللَّعِبُ بِالشِّطْرَنْجِ فَمَذْهَبُ مَالِكٍ إلَى الْقَوْلِ بِتَحْرِيمِهَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ إنَّهَا مَكْرُوهَةٌ كَرَاهِيَةَ تَغْلِيظٍ وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهَا لَيْسَتْ مُحَرَّمَةً، وَالشِّطْرَنْجُ فَإِنَّهَا تَحْتَاجُ إلَى الْفِكْرِ وَالتَّرَوِّي وَالتَّدْبِيرِ وَالذَّكَاءِ وَإِدْرَاكِ أَنْوَاعِ اللَّعِبِ وَالصَّبْرِ فِي كُلِّ يَوْمِ لَعِبٍ وَهُوَ أَيْضًا مُشَبَّهٌ بِأَحْوَالِ الْحَرْبِ وَمَعْرِفَةِ حِيَلِ الْحَرْبِ، فَإِنَّ الشَّاهَ يُشَبَّهُ بِالسُّلْطَانِ والْفَرْزَانُ الْوَزِيرُ الْمُشَاوِرُ فَتَارَةً يُلَازِمُهُ وَتَارَةً يَتَفَرَّدُ عَنْهُ بِالْمَصْلَحَةِ وَالْفَرَسُ وَالْفِيلُ ظَاهِرٌ أَنَّهُمَا مُشَبَّهَانِ بِآلَةِ الْحَرْبِ مُلَازِمَانِ قُرْبَ السُّلْطَانِ وَالْبَيَاذِقُ تُشَبَّهُ بِالرَّجَّالَةِ بَيْنَ يَدَيْ الشَّاهِ وَالْفِرْزَانِ، وَالرُّخُّ مِثْلُ تُرْسِ السُّلْطَانِ فِي الطَّرَفَيْنِ أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ كَانَ فِي صِفَةِ لَقْطِهِ، وَلَا يَتَمَكَّنُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَأْخُذَ لِلسُّلْطَانِ بَلْ شَأْنُهُ مُحَاصَرَتُهُ فَقَطْ؟ وَفِيهِ تَفْصِيلٌ وَصِنَاعَاتٌ لَا يَحْتَمِلُ هَذَا الْمُخْتَصَرِ ذِكْرِهَا، وَقَدْ لَعِب بِهَا أَيْضًا جَمَاعَةٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ مِنْهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَعَطَاءٌ كَانَا يَلْعَبَانِ بِهَا اسْتِدْبَارًا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ أَنَّ عَدَالَتَهُ وَجُرْحَهُ يُعْتَبَرُ بِصِفَةِ لَعِبِهِ، فَإِنْ خَرَجَ عَلَيْهَا إلَى خَلَاعَةٍ بِأَنْ قَامَرَ عَلَيْهَا أَوْ لَعِبَ فِي الْأَسْوَاقِ أَوْ تَشَاغَلَ بِهَا عَنْ الصَّلَاةِ الْوَاجِبَةِ خَرَجَ عَنْ الْعَدَالَةِ.

.حُكْمُ شَهَادَةِ مَنْ اتَّخَذَ الْحَمَامَ لِلْأَصْوَاتِ وَالِاسْتِئْنَاسِ وَالِاسْتِفْرَاخِ:

وَأَمَّا اتِّخَاذُ الْحَمَامِ لِلْأَصْوَاتِ وَالِاسْتِئْنَاسِ وَالِاسْتِفْرَاخِ فَلَا بَأْسَ بِهِ، وَمَنْ جَعَلَ نَفْسَهُ مَسْخَرَةً يُضْحَكُ بِهِ فِي كَلَامِهِ أَوْ لِبَاسِهِ كَالْفَقِيهِ إذَا لَبِسَ الْقَبَاءَ أَوْ الكلوتة فِي بِلَادٍ لَا يَعْتَادُ أَهْلُهَا لُبْسَ ذَلِكَ كَانَ تَارِكًا لِلْمُرُوءَةِ وَكَذَلِكَ مَنْ يَكْشِفُ رَأْسَهُ وَيَمُدُّ رِجْلَيْهِ بَيْنَ النَّاسِ فِي مَكَان لَا يَعْتَادُ أَمْثَالُهُ ذَلِكَ كَانَ تَارِكًا لِلْمُرُوءَةِ أَيْضًا، وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَأْكُلَ فِي الطَّرِيقِ وَالْأَسْوَاقِ وَالنَّاسُ يَنْظُرُونَهُ وَلَا يَبُولَ عَلَى قَارِعَةِ الطَّرِيقِ الْمَسْلُوكَةِ وَلَا يَحْمِلَ مَتَاعَهُ بُخْلًا بِأُجْرَةِ حَمَّالٍ يَحْمِلُهُ لَهُ.

.حُكْمُ شَهَادَةِ أَصْحَابِ الصَّنَائِعِ الرَّذِلَةِ:

وَأَمَّا الصَّنَائِعُ الرَّذِلَةُ كَالْحَجَّامَةِ وَالْحِيَاكَةِ وَالْحِرَاسَةِ وَالْقِيَامِ فِي الْحَمَّامِ وَالزَّبَّالِينَ وَالْقَصَّابِينَ وَالسَّمَّاكِينَ وَالْمُبَاشِرِينَ لِلنَّجَاسَاتِ بِأَثْوَابِهِمْ وَأَبْدَانِهِمْ إذَا حَسُنَتْ طَرِيقَتُهُمْ وَأَزَالُوا مَا عَلَيْهِمْ مِنْ النَّجَاسَاتِ وَأَتَوْا بِمَا يَلْزَمُهُمْ مِنْ الطَّاعَاتِ فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: لَا تُقْبَلُ لِأَنَّ اخْتِيَارَهُمْ لِهَذِهِ الصِّنَاعَةِ مَعَ أَنَّ النَّاسَ يَسْتَرْذِلُونَهَا دَلِيلٌ عَلَى سَخَفِ عُقُولِهِمْ.
وَالثَّانِي: تُقْبَلُ لِأَنَّ الْحَاجَةَ تَدْعُو إلَى ذَلِكَ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّ مَا اُسْتُرْذِلَ لِأَجْلِ الدِّينِ يُقْدَحُ وَمَا اُسْتُرْذِلَ لِأَجْلِ الدُّنْيَا كَالْحِيَاكَةِ لَمْ يُقْدَحْ وَقَالَ قَوْمٌ إنْ كَانَتْ صِنَاعَةُ آبَائِهِمْ وَقَدْ نَشَئُوا عَلَيْهَا مِنْ الصِّغَرِ لَا تُقْدَحُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَإِنَّمَا هُمْ اخْتَارُوهَا لِأَنْفُسِهِمْ كَانَ ذَلِكَ قَادِحًا وَيَجِبُ عَلَى الشَّاهِدِ أَنْ يَتَوَقَّى فِي أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ مَا اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ لِيَنْقَطِعَ عَنْهُ أَلْسِنَةُ الْعَامَّةِ وَيَزُولَ عَنْهُ الظِّنَّةُ وَتَنْتَفِي عَنْهُ التُّهْمَةُ وَأَنْ يُنَظِّفَ مَطْعَمَهُ وَيُجَمِّلَ مَلْبَسَهُ وَيَحْفَظَ لَفْظَهُ وَيُظْهِرَ بِشْرَهُ مَعَ إخْوَانِهِ وَجِيرَانِهِ كَمَا قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ شُكْرِهِ إخْوَانَهُ وَجِيرَانَهُ وَخُلَطَاؤُهُ فَهُوَ جَائِزٌ الشَّهَادَةِ وَيَنْبَغِي أَنْ يَتَجَنَّبَ السَّفَلَةَ وَمَنْ هُوَ مَشْهُورٌ بِبِدْعَةٍ وَيَتَوَقَّى إسْقَاطَ الْمُرُوَّةِ جَهْرَةً وَأَنْ لَا يَكُونَ لِأَحَدٍ عَلَيْهِ مِنَّةٌ وَفِي هَذَا كِفَايَةٌ.

.الْبَابُ الثَّانِي وَالْخَمْسُونَ فِي الْأُمَرَاءِ وَالْوُلَاةِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِمْ مِنْ أُمُورِ الْعِبَادِ:

يَنْبَغِي لِلْمُحْتَسِبِ أَنْ يَقْصِدَ مَجَالِسَ الْأُمَرَاءِ وَالْوُلَاةِ وَيَأْمُرَهُمْ بِالشَّفَقَةِ عَلَى الرَّعِيَّةِ وَالْإِحْسَانِ إلَيْهِمْ وَيَذْكُرَ لَهُمْ مَا وَرَدَ فِي ذَلِكَ مِنْ الْأَحَادِيثِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَا مِنْ أَمِيرٍ يَلِي أَمْرَ الْمُسْلِمِينَ وَلَا يَجْهَدُ لَهُمْ وَيَنْصَحُ إلَّا لَمْ يَدْخُلْ الْجَنَّةَ» وَفِي رِوَايَةٍ: «لَمْ يَجِدْ رِيحَ الْجَنَّةِ».
وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْ أَمِيرٍ يُؤَمَّرُ عَلَى عَشْرَةٍ إلَّا وَهُوَ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَغْلُولَةً يَدُهُ إلَى عُنُقِهِ حَتَّى يَكُونَ عَمَلُهُ هُوَ الَّذِي يُطْلِقُهُ أَوْ يُوثِقُهُ» وَفِي الْحَدِيثِ: «لَا تَسْأَلْ الْإِمْرَةَ فَإِنَّك إنْ أُعْطِيتَهَا عَنْ مَسْأَلَةٍ وُكِلْت إلَيْهَا وَإِنْ أُعْطِيتهَا مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ أُعِنْت عَلَيْهَا».
وَفِي الْحَدِيثِ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ: «إنِّي أُحِبُّ لَك مَا أُحِبُّ لِنَفْسِي لَا تَتَأَمَّرْنَ عَلَى اثْنَيْنِ وَلَا تَتَوَلَّيَنَّ مَالَ يَتِيمٍ».
وَيُرْوَى أَنَّ الْعَبَّاسَ عَمَّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَمِّرْنِي إمَارَةً قَالَ: «يَا عَمِّ نَفْسٌ تُحْيِيهَا خَيْرٌ مِنْ إمَارَةٍ لَا تُحْصِيهَا» لِأَنَّ الْإِمَارَةَ حَسْرَةٌ وَنَدَامَةٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَإِنْ اسْتَطَعْت أَنْ لَا تَكُونَ أَمِيرًا فَافْعَلْ، وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَخْرُجُ كُلَّ لَيْلَةٍ يَطُوفُ مَعَ الْعَسَسِ حَتَّى يَرَى خَلَلًا يَتَدَارَكُهُ وَكَانَ يَقُولُ لَوْ ضَاعَتْ شَاةٌ بِالْقُرَاةِ لَخَشِيت أَنْ أُسْأَلَ عَنْهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَانْظُرْ أَيُّهَا الْأَمِيرُ الْمُتَوَلِّي أُمُورَ الْمُسْلِمِينَ إلَى عُمَرَ مَعَ احْتِيَاطِهِ وَعَدْلِهِ وَمَا وَصَلَ أَحَدٌ إلَى قِرَاءَتِهِ وَصَلَاتِهِ كَيْفَ يَتَفَكَّرُ وَيَتَخَوَّفُ مِنْ أَهْوَالِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
حُكِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ قَالُوا كُنَّا نَدْعُو اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يُرِينَا عُمَرُ فِي الْمَنَامِ فَرَأَيْته فِي النَّوْمِ بَعْدَ اثْنَيْ عَشْرَ سَنَةَ كَأَنَّهُ قَدْ اغْتَسَلَ وَأَنَّهُ مُتَلَفِّعٌ بِإِزَارٍ فَقُلْت يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ كَيْفَ وَجَدْت رَبَّك وَبِأَيِّ حَسَنَاتِك جَازَاك قَالَ عَبْدُ اللَّهِ كَمْ لِي مُنْذُ فَارَقْتُكُمْ فَقُلْت اثْنَا عَشَرَ سَنَةً قَالَ مُنْذُ فَارَقْتُكُمْ كُنْت فِي الْحِسَابِ وَخِفْت أَنْ أَهْلَكَ إلَّا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ جَوَادٌ كَرِيمٌ.
فَهَذِهِ حَالُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مِنْ دُنْيَاهُ شَيْءٌ مِنْ أَسْبَابِ الْوِلَايَةِ سِوَى دِرَّتِهِ، وَلَمَّا مَاتَ سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ أَدْخَلَهُ فِي قَبْرِهِ وَلَدُهُ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ فَارْتَكَضَ وَاضْطَرَبَ عَلَى أَيْدِيهِمَا فَقَالَ وَلَدُهُ عَاشَ وَاَللَّهِ أَبِي فَقَالَ لَهُ عُمَرُ بَلْ وَاَللَّهِ عُوجِلَ أَبُوك.
وَقَالَ مَكْحُولٌ الدِّمَشْقِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُنَادِي مُنَادٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَيْنَ الظَّلَمَةُ وَأَعْوَانُهُمْ فَلَا يَبْقَى أَحَدٌ مَدَّ لَهُمْ دَوَاةً أَوْ بَرَى لَهُمْ قَلَمًا فَمَا فَوْقَ ذَلِكَ إلَّا حَضَرُوا فَيُجْمَعُونَ فِي تَابُوتٍ مِنْ نَارٍ فَيُلْقَوْنَ فِي جَهَنَّمَ وَفِي الْحَدِيثِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَا يَقِفُ أَحَدُكُمْ مَوْقِفًا يُضْرَبُ فِيهِ رَجُلٌ مَظْلُومٌ فَإِنَّ اللَّعْنَةَ تَنْزِلُ عَلَى مَنْ حَضَرَ حَيْثُ لَمْ يَدْفَعْ عَنْهُ».
وَرُوِيَ أَنَّهُ مَاتَ رَجُلٌ مِنْ الْحَوَارِيِّينَ فَوَجَدَ عَلَيْهِ أَصْحَابُهُ وَجْدًا شَدِيدًا وَسَأَلُوا عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يَدْعُوَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُحْيِيَهُ لَهُمْ فَوَقَفَ عَلَى قَبْرِهِ وَدَعَا اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَأَحْيَاهُ لَهُمْ وَإِذَا بِرِجْلَيْهِ نَعْلَانِ مِنْ نَارٍ فَسَأَلَهُ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ وَاَللَّهِ مَا عَصَيْت بِهِمَا قَطُّ غَيْرَ أَنِّي مَرَرْت بِمَظْلُومٍ فَلَمْ أَنْصُرْهُ.
وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يُؤْتَى بِالْوُلَاةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنْتُمْ كُنْتُمْ رُعَاةَ خَلِيقَتِي وَخَزَنَةَ مُلْكِي فِي أَرْضِي ثُمَّ يَقُولُ لِأَحَدِهِمْ لِمَ ضَرَبْت عِبَادِي فَوْقَ الْحَدِّ الَّذِي أَمَرْت بِهِ فَيَقُولُ يَا رَبِّ لِأَنَّهُمْ عَصَوْك وَخَالَفُوك فَيَقُولُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَسْبِقَ غَضَبُك غَضَبِي ثُمَّ يَقُولُ لِأَحَدِهِمْ لِمَ عَاقَبْت عِبَادِي أَقَلَّ مِنْ الْحَدِّ الَّذِي أَمَرْت بِهِ فَيَقُولُ يَا رَبِّ إنِّي رَحِمْتهمْ فَيَقُولُ تَعَالَى كَيْفَ تَكُونُ أَرْحَمَ مِنِّي خُذُوا الَّذِي زَادَ وَاَلَّذِي نَقَصَ فَاحْشُوا بِهِمَا زَوَايَا جَهَنَّمَ».
فَيَجِبُ عَلَيْك يَا أَيُّهَا الْمُتَوَلِّي لِأُمُورِ الْمُسْلِمِينَ أَنْ تَحْتَرِزَ عَلَى نَفْسِك مِنْ مِثْلِ هَذَا وَأَنْ تَقِفَ عِنْدَ أَوَامِرِ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّ الظُّلْمَ مِنْ الْوُلَاةِ عَظِيمٌ لِأَنَّهُمْ يُجْرُونَ الْبَاطِلَ مَجْرَى الْحَقِّ وَيُخْرِجُونَ الْجَوْرَ مَخْرَجَ الْعَدْلِ وَيَقُولُونَ إنَّنَا عَلَى الْحَقِّ وَهُمْ أَمَاتُوهُ قَالَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ رَأَيْت بِالْإِسْكَنْدَرِيَّةِ بِالْخَلِيجِ سَمَكًا كَثِيرًا مُطْلَقًا لِلْعَامَّةِ فَاحْتَجَرَ عَلَيْهِ الْوَالِي وَمَنَعَ النَّاسَ مِنْهُ فَذَهَبَ مِنْ الْخَلِيجِ السَّمَكُ إلَّا الْوَاحِدَةُ بَعْدَ الْوَاحِدَةِ.
وَخَطَرُ الْوِلَايَةِ عَظِيمٌ وَخَطْبُهَا جَسِيمٌ وَلَا يَسْلَمُ الْوَالِي إلَّا بِمُخَالَطَةِ الْعُلَمَاءِ وَالصُّلَحَاءِ وَفُضَلَاءِ الدِّينِ لِيُعَلِّمُوهُ طَرِيقَ الْعَدْلِ وَيُسَهِّلُوا عَلَيْهِ خَطَرَ هَذَا الْأَمْرِ وَمِنْ أَعْظَمِ خِصَالِ الْوَالِي وَأَحْمَدِهَا تَوَقُّعًا فِي نُفُوسِ الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ إنْصَافُهُ مِنْ خَاصَّتِهِ وَحَاشِيَتِهِ وَأَعْوَانِهِ وَتَفَقُّدُهُمْ فِي كُلِّ سَاعَةٍ وَيَمْنَعُهُمْ أَنْ يَأْخُذُوا مِنْ الْغُرَمَاءِ فَوْقَ مَا يَسْتَحِقُّونَهُ، وَفِي هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ كِفَايَةٌ وَلْيَكُنْ فِي وَعْظِهِ وَقَوْلِهِ فِي رَدْعِهِمْ عَنْ الظُّلْمِ لَطِيفًا ظَرِيفًا لَيِّنَ الْقَوْلِ بَشُوشًا غَيْرَ جَبَّارٍ وَلَا عَبُوسٍ.
قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ: {وَلَوْ كُنْت فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِك} وَقَدْ تَقَدَّمَتْ الْحِكَايَةُ عَنْ الْمَأْمُونِ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ وَفِي الْحَدِيثِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ وَلِيَ مِنْ أُمُورِ أُمَّتِي شَيْئًا وَرَفَقَ بِهِمْ فَارْفُقْ بِهِ وَمَنْ شَقَّ عَلَيْهِمْ فَاشْقُقْ عَلَيْهِ» فَقَدْ سَبَقَتْ دَعْوَتُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي ذَلِكَ كِفَايَةٌ لِمَنْ يَتَدَبَّرُهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.